سورة غافر - تفسير التفسير القرآني للقرآن

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (غافر)


        


{وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ (60) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (61) ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (62) كَذلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كانُوا بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (63) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً وَالسَّماءَ بِناءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (64) هُوَ الْحَيُّ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (65)}.
التفسير:
قوله تعالى: {وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ} هو التفات بعين الرضا والرحمة والإحسان من اللّه سبحانه وتعالى، إلى عباده المؤمنين، الذين آمنوا به، واستيقنوا أن الساعة آتية لا ريب فيها.
فهؤلاء المؤمنون يدعوهم اللّه سبحانه إلى ساحة فضله وإحسانه، قائلا لهم:
{ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}.
اسألوا تعطوا.. {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} وفى الدعاء رغب إلى اللّه، ووقوف بين يدى رحمته وإحسانه.. وفى الاستجابة إظهار لما للعبد عند ربّه من احتفاء وتكريم، وأنه بموضع الرضا والقبول.
والدعاء، هو عباده المؤمنين، وهو ولاء، وتسبيح، وصلاة للّه رب العالمين.
ومن هنا عرّف الدعاء بأنه مخّ العبادة.. لأنه مفزع العبد إلى ربه، وفيه يتجلى ضعف العبد وانكساره، وذلّه، أمام قدرة اللّه وعظمته وجلاله.. فهو- في صميمه- عبادة خالصة، وابتهال خاشع، وولاء واستسلام.
ولكل إنسان دعاؤه الذي يدعو به ربه.. فمنهم من يطلب الدنيا، ويجعلها همّه فيما يدعو به ربه، ومنهم من يطلب الآخرة ويرجو بدعائه رحمة ربه، ومنهم من يقول: ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفى الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، فيجمع بين الدنيا والآخرة.
وكثير من الناس، لا يذكرون اللّه بالدعاء إلا عند الشدة والضيق.
فهم في غفلة عن ذكر ربهم، حتى إذا نزل بهم مكروه، أو أحاط بهم بلاء ضرعوا إلى اللّه، وأسلموا إليه أمرهم،. فإذا زايلتهم تلك الحال، مضوا إلى ما كانوا فيه من شغل عن اللّه، واشتغال بدنياهم، وتقلبهم في لعبهم ولهوهم.
وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ} [12: يونس] هذا، وقد عرضنا موضوع الدعاء في بحث خاص، ذكرنا فيه ماهيّة الدعاء، ومواقع الإجابة، ومواطنها، وهل يردّ الدعاء القضاء؟ وهل يجاب كل دعاء؟ ثم عرضنا بعضا من أدعية الرسول صلوات اللّه وسلامه عليه، وأدعية الصحابة، وغيرهم من صالحى المؤمنين.. وذلك في كتابنا: الدعاء المستجاب.
قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ} الداخر: الذليل المهين.
وفى هذا إشارة إلى أن الدعاء عبادة، وولاء، وخضوع للّه، واعتراف بجلاله وقدرته.. وأن الذين لا يدعون اللّه، ولا يوجهون وجوههم إليه، هم أهل كفر باللّه، وضلال عنه.. إذ يمنعهم كبرهم واستعلاؤهم عن أن يذلّوا للّه، ويمدوا أيديهم سائلين من فضله، طالبين من رحمته.. إنهم سيدخلون جهنم أذلاء، محقرين، بعد أن صرفوا وجوههم عن اللّه مستعلين مستكبرين.. إنه الهوان والإذلال، هو جزاء كل متكبر جبار.
وفى قوله تعالى: {عَنْ عِبادَتِي} بدلا من {دعائى} إشارة إلى أن الدعاء من العبادة، بل إنه- كما قلنا- مخّ العبادة.
قوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ}.
مناسبة هذه الآية لما قبلها، هى أن الآية السابقة قد حملت دعوة إلى الناس أن يدعوا اللّه ربهم، وأن يوجّهوا وجوههم إليه.. كما توعدت الآية الذين يستكبرون عن عبادة اللّه ودعائه، بالإلقاء في النار، في ذلة وصغار.
فجاءت هذه الآية والآيات التي بعدها، تعرض بعض مظاهر قدرة اللّه ورحمته وإحسانه إلى عباده، ليرى هؤلاء المستكبرون أين يقع استكبارهم من جلال اللّه وعظمته.
فقوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً} أي أن اللّه الذي يدعوكم إليه، ويستضيفكم إلى ساحة فضله وإحسانه، ثم تأبون أن تستجيبوا له أيها المستكبرون- اللّه الذي. إنه سبحانه جعل لكم ذلك من غير طلب أو دعاء، فاللّه سبحانه يعطى من غير طلب، ويجود من غير سؤال.. وما الدعاء الذي تدعونه به، إلا عبادة وولاء للّه رب العالمين.
وفى قوله تعالى: {وَالنَّهارَ مُبْصِراً} إشارة إلى أن النهار وضوءه هو الذي يعطى العيون وظيفة الإبصار، وأنه لو لا هذا الضوء لما كان للعين أن ترى شيئا، فالتقاء الضوء بالعين هو الذي يعطيها القدرة على الإبصار، وأنه لو لا هذا الضوء لكان البصير والأعمى على سواء.. وإلى هذا يشير المعرى بقوله:
وبصير الأقوام في مثل أعمى *** فهلمّوا في حندس نتصادم
والحندس: الظلام الشديد.
وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ} إشارة إلى موقف كثير من الناس من فضل اللّه ونعمه عليهم، حيث يلقونها بالجحود والكفران، فلا يشكرون للّه، بل ولا يؤمنون به.
قوله تعالى: {ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ}.
فى الإشارة إلى اللّه سبحانه وتعالى، إلفات لهؤلاء الغافلين عنه، المشركين به، العاكفين على عبادة ما يعبدون من أوثان وغير أوثان، مما صنعت أيديهم، أو تصورت أوهامهم.. فاللّه سبحانه هو خالق كل شىء، وما يعبده هؤلاء المشركون من معبودات، هى مخلوقات للّه، والمنطق يقضى بداهة بألّا تكون عبادة إلا للخالق وحده سبحانه وتعالى، وأن عبادة غيره سبحانه، ضلال مبين.
وقوله تعالى: {فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} استفهام إنكارى، ينكر على هؤلاء المشركين أن يولوا وجوههم إلى غير اللّه الواحد، الخالق لكل شىء.. والإفك: العدول عن الحق إلى الباطل، وعن الهدى إلى الضلال.
قوله تعالى: {كَذلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كانُوا بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ}.
أي بمثل هذا الإفك، والافتراء على اللّه سبحانه بنسبة الشركاء إليه، يأفك ويفترى كل من يجحد بآيات اللّه، ولا يعرف ما فيها من دلائل الكمال والجلال لذات اللّه سبحانه وتعالى.. إن آفة الضالين والمشركين، هى جهلهم بآيات اللّه، وعدم وقوفهم عليها، الأمر الذي ينتهى بهم إلى إنكارها، ثم إلى إنكار اللّه.
قوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً وَالسَّماءَ بِناءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ.. ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ}.
وهذه آية من آيات اللّه.. فهل لأهل الضلال والإفك أن ينظروا فيها، وأن يخرجوا من هذا الظلام الذي هم فيه، وأن يصافحوا بأبصارهم هذا النور المشّع من آيات اللّه، ليروا على ضوئه الحق الذي ضلوا عن طريقه.
وكأنّ سائلا سأل: وما اللّه الذي بآياته يجحدون؟ فكان الجواب:
{اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً وَالسَّماءَ بِناءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ.. ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ} الذي أقامكم على هذه الأرض، وجعلها لكم مستقرا ومقاما، وجعل فوقكم السماء سقفا محفوظا، تمسكه قدرته.. فإذا نظرتم في أنفسكم رأيتم كيف أخرجكم اللّه في تلك الصورة الكريمة من الخلق، وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة.. ثم ساق لكم من الرزق ما يقيم حياتكم، ويحفظ وجودكم.. {ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ} إن كنتم تريدون التعرف إليه، والإيمان به.. {فَتَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ}.
أي علا، وعظم. ربكم هذا، إنه رب العالمين.
قوله تعالى: {هُوَ الْحَيُّ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ}.
أي ذلكم اللّه ربكم {هو الحي} حياة أبدية سرمدية.. وكل شيء هالك إلا وجهه.. {لا إله إلا هو} وإذ تفرد سبحانه بالحياة الدائمة السرمدية، فهو المتفرد كذلك بالألوهية.. وإذ تفرد سبحانه بالألوهية، فمن حقه أن يتفرد وحده بالعبودية له من جميع خلقه {فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} لا تشركوا معه معبودا آخر، واجعلوا الحمد له، مفتتح عبادتكم ومختتمها.. فهو- سبحانه- المستحق للحمد، أولا وآخرا.


{قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جاءَنِي الْبَيِّناتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (66) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (67) هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (68)}.
التفسير:
قوله تعالى: {قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جاءَنِي الْبَيِّناتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ}.
هذا هو موقف الرسول صلوات اللّه وسلامه عليه، من آيات ربه، تلك الآيات التي تلقاها وحيا من ربه، ثم بلغها- كما أمره ربه- إلى الناس، فاهتدى بها من اهتدى، وكفر بها من كفر!.
والنبي- صلوات اللّه وسلامه عليه- يمثل النموذج الأمثل والأكمل في الأخذ بآيات ربه، والامتثال لما تأمر به، واجتناب ما تنهى عنه.
فهو صلوات اللّه وسلامه عليه، قد نهى من ربه أن يعبد ما يعبد المشركون من دون اللّه.. وقد اجتنب ما نهى عنه.
وهو- صلوات اللّه وسلامه عليه- قد أمر أن يعبد اللّه وحده، ويسلم وجوده للّه رب العالمين، فامتثل ما أمر به.
هذه هى سبيل النبي.. فمن أراد أن يكون مع النبي، فهذه سبيله: أن يجتنب عبادة ما يعبد المشركون، وأن يخلص العبادة للّه وحده.
وهنا سؤال:
كيف ينهى النبىّ عن عبادة ما يعبد المشركون، وهو- صلوات اللّه وسلامه عليه- لم يسجد لصنم، ولم يوجّه وجهه إلى غير اللّه، قبل أن تأتيه الرسالة، إذ كان له من فطرته السليمة ما عصمه به اللّه من أن يشتهى هذا الطعام الخبيث، الذي كان يقتات منه قومه..؟
والجواب على هذا من وجهين:
فأولا: ليس النهى عن الشيء بالذي يلزم منه أن يكون الموجّه إليه النهى مواقعا له، أو متلبسا به.. بل يصح أن يكون النهى واقعا على ذات الشيء المنهّى عنه وحده، أشبه بلافتة تشير إلى الخطر الكامن فيه، وتنبه إلى الحذر منه.. فإذا نهى النبي عن الشرك، فإنما ينهى عن أمر، ينبغى عليه أن يحذره ويتوقاء أبدا، كما يقول اللّه سبحانه وتعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [65: الزمر] وثانيا: أن هذا النهى- وإن كان موجها إلى النبىّ- هو في حقيقته موجه إلى كلّ مدعوّ إلى الإيمان باللّه.. فمن أراد أن يدخل في الإيمان، فلينزع ثوب الشرك أولا، ولينفض يديه، وبخل نفسه من كل ما يصله بتلك المعبودات التي تعبد من دون اللّه.. ثم ليدخل بعد هذا إلى ساحة الإيمان نفيّا، طاهرا من الشرك ورجسه.
وفى قوله تعالى: {لَمَّا جاءَنِي الْبَيِّناتُ مِنْ رَبِّي}.
إشارة إلى أن هذا الذي تلقاه النبىّ من نهى عن الشرك، وأمر بالإسلام لربه، إنما كان بعد بعثته، واصطفائه لرسالة ربه، وتلقيه ما ينزل عليه من آياته وكلماته.. فهذا النهى وذلك الأمر، إنما هو من محامل الرسالة التي أرسل بها من ربه، وأمر بتبليغها، وإلّا فإنه قبل أن يتلقى هذه الرسالة، لم يكن منهيّا عن شيء أو مأمورا بشىء.. وإنما كان يأخذ الأمور بما تهديه إليه فطرته، ويدعوه إليه عقله.
قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}.
هو بيان لما لربّ العالمين الذي دعى النبي والمؤمنون معه إلى الإسلام له- من قدرة، وعلم، وحكمة، يراها ذوو الأبصار في هذا الإنسان، وفى مادة خلقه، وكيف تنقّل من طور إلى طور، حتى كان هذا الكائن العجيب، الذي يحارب اللّه، ويكفر به!! فالمادة الأولى للإنسان- أي إنسان- هى هذا التراب.. إذ كان غذاء أبويه من نبات الأرض المتخلّق من التراب، وكانت النطفة متخلقة من هذا الغذاء.. وهذه هى جرثومة الحياة للإنسان.. ثم تنتقل هذه النطفة في الرّحم، فتكون علقة، فمضغة، فعظاما، فلحما يكسو هذه العظام.. حتى إذا اكتمل الجنين في بطن أمه، ولد طفلا، هو الصورة المصغرة لهذا الإنسان الذي سيكونه يوم يكبر، ويبلغ أشدّه.
هذه هى مراحل الحياة الإنسانية.. من التراب: إلى الإنسان.. ثم إلى التراب..!
وفى قوله تعالى: {ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا} عطف وجود ذى خصائص مميزة للإنسان على وجود آخر، له خصائصه ومميزاته.. فالإنسان في بطن أمه، يعيش في عالم، ثم ولد فكان في عالم آخر، يختلف عن عالمه الذي كان فيه.
فكأن هذا الميلاد إخراج جديد له من وجود إلى وجود، ولهذا جاء التعبير القرآنى: {ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا} بالعطف بثم التي تفيد التراخي، ثم بفعل الإخراج الذي يدل على المغايرة، بين ما كان قبل هذا الإخراج، وبعده.
وقوله تعالى: {ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً} ثم هنا زائدة، والغرض منها الدلالة على أن هنا زمنا ممتدا بين خروج الإنسان من بطن أمه طفلا، ثم بلوغه أشده.
فقوله تعالى: {ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ} هو تعليل لخروج الإنسان من بطن أمه إذ لو لا هذا الخروج، لما بلغ الإنسان هذه الغاية.. وكأنّ النظم هو: ثم يخرجكم طفلا لتبلغوا أشدكم ولتكونوا شيوخا.
وبين بلوغ الإنسان أشده، وبين شيخوخته مسافة زمنية، يملأ فراغها حرف العطف {ثم}.
وقوله تعالى: {وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ} احتراس، يراد به تقييد هذا الإطلاق في قوله تعالى: {ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً} أي ومنكم من يتوفى من قبل أن يبلغ أشده، أو من قبل أن يكون شيخا.
وقوله تعالى: {وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى} معطوف على قوله تعالى: {وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ} بتقدير محذوف يدل عليه ما قبله: أي ومنكم من يمدّ في أجله، لتبلغوا الأجل المكتوب لكم.
قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ.. فَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} أي أن من قدرة اللّه سبحانه ومن تدبيره في خلقه، أنه {يحيى} أي يخلق الأحياء، ويمسك عليهم الحياة {ويميت} أي يميت الأحياء، التي ألبسها ثوب الحياة.
وعمليات الإحياء والإماتة، ليست بالأمر الذي يتكلف له اللّه- سبحانه- جهدا، أو يبذل فيه عملا.. إذ أن كل شيء في هذا الوجود خاضع لسلطانه، مستجيب لقدرته. منفذ لمشيئته، من غير تأبّ أو انحراف.. {فَإِذا قَضى أَمْراً.. فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} أي أنه سبحانه إذا شاء أمرا، كان هذا الأمر، وجاء كما شاءت مشيئته.
{إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً} [93: مريم].


{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ (69) الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ وَبِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (70) إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ (71) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (72) ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ (73) مِنْ دُونِ اللَّهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكافِرِينَ (74) ذلِكُمْ بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ (75) ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (76) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ (77)}.
التفسير:
قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ}.
بعد هذا الاستعراض الرائع لقدرة اللّه، وآثاره في خلقه، لا يزال هناك كثير من أهل الضلال، يقفون من هذه الآيات موقف العناد والتكذيب.
فإلى أين يصرفون عن هذا الحق الذي بين أيديهم؟ وماذا بعد الحق إلا الضلال؟.
وفى تعدية الفعل {يجادلون} بحرف الجر {فى} إشارة إلى أنهم يجادلون بغير علم، لجاجة وسفها وتطاولا.. ولهذا ضمن الفعل معنى الخوض.
قوله تعالى: {الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ وَبِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ}.
هو بيان يكشف عن الذين يجادلون في آيات اللّه.. إنهم هم هؤلاء الذين كذبوا بهذا الكتاب، أي القرآن الكريم، وهم هؤلاء الذين كذبوا من قبلهم بما أرسل اللّه به الرسل من آيات ومعجزات.. فهؤلاء الذين يجادلون في القرآن الكريم، هم وأولئك الذين سبقوهم من المكذبين، الذين جادلوا في آيات اللّه التي جاءهم بها رسل اللّه- هؤلاء وأولئك جميعا سوف يعلمون ما ينتظرهم من بأس اللّه وعذابه، وسوف يرون ما أنذرهم به رسلهم من عذاب، فلم تغنهم النذر!.
قوله تعالى: {إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ}.
{إذ} ظرف متعلق بقوله تعالى: {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} أي فسوف يعلمون الحق الذي أنكروه، حين يساقون إلى جهنم يسحبون على وجوههم، والأغلال في أعناقهم، والسلاسل في أيديهم وأرجلهم.
وقوله تعالى: {فِي الْحَمِيمِ} متعلق بقوله تعالى: {يُسْحَبُونَ} أي يسحبون بالأغلال التي في أعناقهم، في الحميم.. والحميم هو ما يغلى من السوائل.
وقوله تعالى: {ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ} أي يربطون على النار، لتشوى عليها أجسامهم، بعد أن غرقت في هذا الحميم.
قوله تعالى: {ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ.. قالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً.. كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكافِرِينَ}.
فى قوله تعالى: {قِيلَ لَهُمْ} بدلا من: يقال لهم، حيث نسق النظم الذي جاء معلّقا الأمر بالمستقبل، في الأفعال {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ}.
{ويُسْحَبُونَ} {ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ} في هذا حكاية لما يقال لأصحاب النار يومئذ، وكأنه قيل بالفعل، وذلك لتقرير وقوعه وتوكيده، ثم ليسمع هؤلاء المشركون ما قيل لمن سبقوهم من أهل الضلال، فهذا خبر من أخبارهم، وأنهم إنما يسألون عن معبوداتهم الذين عبدوهم من دون اللّه، فيلتفتون فلا يجدون لهم ظلّا.. فيقولون: لقد ضلوا عنا، أي تاهوا في هذا المزدحم.. ثم إذ يتبين لهم أن ما كانوا يدعونه من دون اللّه، باطل، وضلال، يقولون: {لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً} أي شيئا يعتدّ به، ويستند عليه.. تلك هى حال المشركين الذين سبقوا هؤلاء المكذبين من قريش، وهذا ما سئلوا عنه، وذلك هو جوابهم.. فماذا يكون جواب هؤلاء المكذبين المشركين من قريش حين يسألون هذا السؤال؟ أيجدون ما يقولون غير هذا القول؟
وهل يرون لمعبوداتهم وجها يوم الحساب؟ وإذا رأوا لهم وجها فهل يغنون عنهم من عذاب اللّه من شى ء؟.
وقوله تعالى: {كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكافِرِينَ} أي كما أضل اللّه المكذبين برسل اللّه، كذلك يضل اللّه هؤلاء المشركين الذين يكذبون رسول اللّه.
لأنهم جميعا ظالمون كافرون، إذ خرجوا عن سنن العدل والإنصاف بإنكارهم الصبح المبين، وتكذيبهم الحق الواضح.
قوله تعالى: {ذلِكُمْ بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ}.
أي ذلكم الذي أنتم فيه من بلاء وعذاب في الآخرة، هو بسبب ما كنتم عليه في الدنيا، من غرور، بما ملكتم فيها، وزهو وعجب بما بين أيديكم من زخرفها ومتاعها، فصرفكم ذلك عن أن تنظروا إلى ما وراء يومكم الذي أنتم فيه، فقطعتم حياتكم في فرح ومرح، ولهو وعبث.
وفى قوله تعالى: {بِغَيْرِ الْحَقِّ} إشارة إلى أن الفرح المذموم، هو الفرح الذي ينبع من استرضاء عواطف خسيسة، وإشباع شهوات بهيمية، كما يقول اللّه تعالى: {فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ} [81: التوبة].
أما الفرح الذي يقع في نفس الإنسان، ويهزّ مشاعره، من انتصار حق، أو استعلاء على شهوة، فهو فرح محمود، بل ومطلوب، كما يقول اللّه تعالى: {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ} [4- 5: الروم].
والمرح: الفرح الشديد، الذي يصحبه عبث ولهو.
قوله تعالى: {ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} هو دعوة إلى أهل الكفر والضلال، أن ينزلوا منازلهم التي أعدت لهم في الآخرة.. فلكل جماعة بابها الذي تدخل منه إلى منزلها المعدّ لها في جهنم، كما يقول اللّه سبحانه: {لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ} [44: الحجر] ودخول الأبواب- كما قلنا من قبل- هو دخول في جهنم ذاتها، إذ كانت تلك الأبواب قطعة من جهنم، مطبقة على أهلها.
قوله تعالى: {فَاصْبِرْ.. إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ.. فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ}.
هو دعوة إلى النبي الكريم بالصبر على ما يلقى من عنت قومه، وتكذيبهم له، والتربص لدعوته، وللمؤمنين بها.. وفى الدعوة إلى الصبر، مع كل موقف، وفى أعقاب كل مواجهة بين النبي وقومه- في هذا ما يشير إلى ما كان يلقى النبىّ من أذى وما يحتمل من ضرّ، وأنه ليس له إلا أن يصبر ويحتمل، حتى يحكم اللّه بينه وبين قومه.. {إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} وهو أن اللّه سينصره، ويعزّ المؤمنين الذين آمنوا به، ويمكّن لهم في الأرض، وأنه- سبحانه- سيخزى الضالين المكذبين، ويوقع بهم البلاء في الدنيا، والعذاب الشديد في الآخرة.
وقوله تعالى: {فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ} أي أن هؤلاء الضالين المكذبين، لن يفلتوا من قضاء اللّه فيهم، ومما يتوعدهم اللّه به من عذاب. سواء أرأيت هذا أيها النبي، في الدنيا، أو متّ قبل أن ترى قضاء اللّه فيهم، فإنهم راجعون إلينا في الآخرة، وما فاتك أن تراه من قضاء اللّه فيهم في الدنيا، سترى أضعافه فيهم الآخرة.

1 | 2 | 3 | 4 | 5